تكشف الدراسة عن احتمالية تأثر المزارعين في المناطق الساحلية بالعوامل الاجتماعية أكثر من العوامل الاقتصادية في مجال التكيف مع نقص المياه
باحثون من جامعة خليفة يطورون نموذجًا جديدًا للتنبؤ بسلوكيات المزارعين في ظل حالات العجز في المياه

تُعرف مشكلة العجز المائي عالميًا بأنها واحدة من أكبر المخاطر التي تهدد القطاع الزراعي خاصة في المناطق الساحلية، ومن المتوقع أن ترتفع حدة التغير في المناخ وتتزايد المدة الزمنية التي ستستغرقها الموجات الحرارية مستقبلًا، الأمر الذي سيسبب تغيرًا ملحوظًا في أنماط هطول الأمطار وقد يشكل خطرًا كبيرًا على القطاع الزراعي وعلى المحاصيل الزراعية في السواحل.

وفي هذا الإطار، قام فريق بحثي من جامعة خليفة بإشراف الأستاذ الدكتور معتصم الفاضل، رئيس قسم هندسة البنية التحتية المدنية والبيئية وأستاذ الهندسة الصناعية وهندسة النظم، بتطوير نموذج قادر على التنبؤ بالقرارات التي يتخذها المزارعون في مجال ممارساتهم الزراعية مستقبلًا والمتعلقة بالعجز المائي الناتج عن تغير المناخ، حيث نشر الباحثون نتائجهم في المجلة الدولية "جورنال أوف إنفايرومنتال مانيجمينت"، المتخصصة في البحوث المتعلقة بإدارة الأنظمة الإدارية وتحسين الجودة البيئية.

وقال الدكتور معتصم: "يمكن القول بأن تغير المناخ في الأيام المقبلة قد يعود بآثار سلبية كبيرة على المناطق الساحلية وسيشكل خطرًا على استدامة الأمن الغذائي العالمي والجدوى الاقتصادية والسبل المعيشية للمزارعين. لذلك، يعتبر من الضروري جدًا تسليط الضوء على عمليات صنع القرار  لدى المزارعين في ظل حالات شح المياه المرتبطة بتغير المناخ".

تشير النظرية الراهنة إلى أن المزارعين يسعون إلى تحقيق الأرباح، حيث تشير الأدلة إلى أن المزارعين ذوي الخبرات في المجال يميلون إلى صنع القرارات المجدية اقتصاديًا مع الأخذ بعين الاعتبار البيئة المحيطة بهم والمناخ ومستوى ثقافتهم السياسية.

وأضاف الدكتور معتصم: "ومن المعروف أيضًا أن المزارعين يولون اهتمامًا كبيرًا لنمط حياتهم الزراعي والعائلة والمجتمع وعادات العمل والخبرة. لذلك، قد تسيء النماذج المعيارية في تمثيل قرارات المزارعين وتعتبر مؤشرات غير دقيقة ولا تعكس واقعهم".

وعلى صعيد آخر، تم تطوير النماذج الاجتماعية بهدف التركيز على مواقف المزارعين ومقاصدهم ومعتقداتهم وعاداتهم في عمليات صنع القرار، حيث تتمحور هذه النماذج حول مدى التعقيدات التي تنطوي عليها عمليات صنع القرار بالاعتماد على نظرية علم النفس الاجتماعي الذي ينص على وجود دافعين مركزيين يتحكمان في السلوك البشري هما، المواقف والمعايير الشخصية، اللذان يؤثران على القرارات إلى ما هو أبعد من نطاق الاستفادة الربحية.

ووفقًا لذلك، قرر الفريق البحثي تطوير نموذج يلقي الضوء على أهمية المتغيرات النفسية الاجتماعية عند محاكاة قرارات المزارعين.

قال الدكتور معتصم: "تعد النماذج القائمة على مجموعة العوامل أدوات فعالة تهدف إلى تقييم عملية صنع القرار وفي نفس الوقت تراعي التبعيات المكانية، حيث تتميز بقدرتها على محاكاة الأفعال والتواصل المشترك في سلسلة من العوامل وبيئاتها وتقييم طرق الدماغ، كما أنها قادرة على تقييم مجموعة واسعة من قواعد صنع القرار لا سيما وأنها نجحت في التنبؤ بقرارات المزارعين في سيناريوهات مختلفة".

قام الباحثون باختبار نموذجهم والتحقق من صحته في العديد من المزارع الواقعة في لبنان على امتداد ساحل شرق البحر الأبيض المتوسط. تستخدم معظم الأراضي في تلك المنطقة لأغراض الزراعة، حيث تبلغ نسبة إنتاج الموز 65% من مجموع الإنتاج الكلي في تلك المناطق التي تحظى بمناخ البحر الأبيض المتوسط. يتميز مناخ البحر الأبيض المتوسط بأنه حار وجاف صيفًا ومعتدل البرودة في فصل الشتاء مصحوبًا بالرياح والأمطار. وفي هذا الصدد، تتنبأ نماذج المناخ في تلك المناطق بحدوث انخفاض في نسبة هطول الأمطار وارتفاع بدرجات الحرارة بحلول العام 2030، الأمر الذي يعني  أيضًا تدني مستويات وفرة المياه.

ويساهم هذا السيناريو، الذي اعتمد عليه الفريق في اختبار نموذجهم، في تسليط الضوء على الآثار المحتملة التي يمكن أن تقع على المنطقة مستقبلًا  نتيجة التغير في مستويات وفرة المياه، إضافة للتركيز على العديد من التنبؤات حول حجم الانخفاض في كمية المياه.

وفي ظل هذه المعايير، التي تم خلالها هذه المرة استخدام قواعد اقتصادية بحتة، تم التنبؤ بأنه مع انتهاء عملية المحاكاة في العام 2032 ستشهد المنطقة انخفاض بمعدل حجم الأراضي التي تنتج الموز  يصل إلى 30%، كما تنبأ النموذج بسلوك المزارعين المتمثل في اختيار هم لزراعة المحاصيل التي تحقق أرباحًا اقتصادية في ظل هذه الظروف المناخية لمضاعفة حجم العائدات المادية.

يتمثل التنبؤان الأكثر شيوعًا بين المزارعين، واللذان يعتمدان على القواعد الاقتصادية، في ترك الزراعة دون بيع الأرض وتغيير نوع المحاصيل. ولكن تغير التنبؤان عندما اعتمدت قرارات المزارعين على تحسين العوامل الاقتصادية الاجتماعية ليصبح تغيير نوع المحاصيل والبحث عن مصدر جديد للمياه.

وعلق الدكتور معتصم: "يؤكد ذلك على الدور الهام الذي تلعبه القيم الاجتماعية والعادات والتجارب السابقة والتي تعكس جميعها حلًا وسطًا ما بين القيم الاجتماعية الرامية إلى الاحتفاظ بالأرض والخسارة الاقتصادية في حال تُركت الأرض جرداء".

وقال: "على الرغم من قيامنا باختباره في منطقة البحر الأبيض المتوسط الساحلية، يوفر نموذج التنبؤ الذي طورناه نظامًا عامًا وغير محدد يتيح الاستفادة من تطبيقه في أي بيئة زراعية. ومن جهة أخرى، يوفر إطار عملنا أداة إدارية فعالة يمكن الاستفادة منها من قبل المدراء في المناطق الساحلية الذين يسعون إلى حماية المناطق الزراعية الساحلية الضعيفة من الزحف العمراني الحضري، ويمكن أيضًا أن يساهم في تحديد آثار السياسات المقترحة واختبارها وأثر التغيرات الفيزيائية والاجتماعية على القرارات الزراعية مستقبلًا ومدى إمكانية المحافظة على الزراعة في المناطق الساحلية".