تقنية جديدة من جامعة خليفة تجمع بين صور الأقمار الصناعية والتعلم الآلي لأتمتة وتحسين عملية الكشف ورسم خرائط المعالم الأثرية في دولة الإمارات والمناطق الصحراوية الأخرى.
الرمال العابرة للأزمنة: تقنية التعلم الآلي بجامعة خليفة تُحدث ثورة في علم الآثار في البيئات القاحلة

في الأراضي الرملية لدولة الإمارات، تكشف التكنولوجيا الحديثة أسرار الماضي. ففي موقع ساروق الحديد الأثري الواقع في صحراء الربع الخالي في دبي، يبتكر الباحثون أساليب جديدة في الاستشعار عن بعد عبر الأقمار الصناعية للكشف عن القطع الأثرية المخفية والمواقع الأثرية المحتملة. يمكن للتقنيات المتطورة المستخدمة أن تحدث ثورة في كيفية اكتشاف ودراسة بقايا العصور الماضية.

وعلى الرغم من أن استخدام رادار التصوير في الأبحاث الأثرية ليس جديدًا، إلّا أن تطبيقه اكتسب زخمًا في السنوات الأخيرة. وعلى عكس الطرق التقليدية للمسوح الأرضية، والتي يمكن أن تستغرق وقتًا طويلًا ويمكن أن تكون شاقة، خاصة في التضاريس الصعبة مثل الصحاري، فإن الاستشعار عن بعد يوفر منظورًا أوسع وأكثر تفصيلًا. كما تسمح هذه التكنولوجيا للباحثين بمسح مناطق شاسعة من الأعلى، ورصد علامات النشاط البشري في الماضي، وتجنب جميع العوائق الأرضية التي تحول دون تحديد هويتهم.

استُخدم التصوير عبر الأقمار الصناعية والرادار بنجاح في الدراسات الأثرية على مستوى العالم، مع التركيز على كل شيء بدءًا من الأبحاث الجيولوجية وحتى خرائط الغطاء النباتي. وفي المناطق القاحلة والرملية والترابية مثل دولة الإمارات، يواجه تطبيق هذه التكنولوجيا تحديات فريدة من نوعها، حيث يمكن أن يؤدي تداخل جزيئات الغبار والغطاء السحابي إلى انخفاض جودة الصورة وتكوّن الكثبان الرملية، ويمكن أن تتداخل الأنماط مع تحديد بقايا النشاط البشري. وعلى الرغم من أنه يمكن للتقدم في مستشعرات الرادار وقدراتها على اختراق الإشارة، التغلب على التحدي المرتبط بالغبار، إلّا أن التضاريس الفريدة من نوعها لا تزال تمثل تحديًا.

سخّر فريق من الباحثين من قسم علوم الأرض بجامعة خليفة قوة الأنظمة الذكية والتعلم الآلي للارتقاء بمستوى الاستشعار عن بعد، فدمجوا صور الأقمار الصناعية مع تقنية التعلم الآلي لمعالجة الصور المتقدمة والتحليلات الجغرافية المكانية لفهم موقع ساروق الحديد بشكل أفضل، مما يساعد على أتمتة العمليات واختبار قابلية تنفيذها..

تعاونت الدكتورة ديانا فرانسيس، رئيسة مختبر العلوم البيئية والجيوفيزيائية بجامعة خليفة والباحث المشارك شرف الدين شريف، والدكتور ستيف غريفيث، الأستاذ الممارس ونائب الرئيس الأول للبحوث والتطوير، مع الأستاذ الدكتور كوزماس بافلوبولوس والدكتورة هيفاء بن رمضان من جامعة السوربون في أبوظبي، والدكتور حسني غديرة من جامعة محمد بن زايد للذكاء الاصطناعي. ونُشرت نتائجهم في مجلة “جيوساينس”.

وقال الدكتور فرانسيس: "كانت القوة الدافعة وراء هذا البحث هي تمكين دولة الإمارات من اكتشاف المواقع والمعالم الأثرية المخبأة تحت الرمال، ونظرًا لطبيعة المناخ وحقيقة أن جزءًا كبيرًا من البلاد عبارة عن صحراء، كان من الصعب جدًا من الناحية اللوجستية فحص الصحراء عن طريق الأرض، ولهذا السبب كانت بيانات الأقمار الصناعية خيارًا أساسيًا، ثم كنا بحاجة إلى التكنولوجيا التي يمكنها الرؤية تحت الرمال.



 

تُعتبر هذه الدراسة الرائدة الأولى التي تطبق مثل هذه التقنيات المتقدمة على المنطقة، حيث توسعت في الأعمال السابقة التي جمعت بين تكنولوجيات الاستشعار عن بعد بالرادار والممارسات الأثرية التقليدية. لا يهدف هذا المشروع إلى الاكتشاف فحسب، بل يهدف أيضًا إلى وضع مقياس مرجعي للقدرات الوطنية والإقليمية للاستشعار عن بعد، والتي يمكن تعميمها على مناطق أكبر.

 

ويفترض الباحثون أن القطع الأثرية التي عُثِر عليها حتى الآن في الموقع تم إنتاجها في الموقع نفسه، مما يشير إلى احتمالية وجود مستوطنات مخفية قريبة، كما أنّهم طوروا عملية آلية لاستخراج الميزات من بيانات رادار الفتحة التركيبية وإجراء التحليلات الجغرافية المكانية، فكانت النتائج واعدة، حيث كانت المناطق المكتَشفة في الموقع مرتبطة بتلك التي كانت تحت التنقيب بالفعل وتكشف عن مناطق أثرية جديدة محتملة.

 

وبطبيعة الحال، لا تخلو العملية من التحديات، حيث تمثل البيئة الصحراوية التي تهيمن عليها الرمال وتتميز بالغطاء النباتي المبعثر، نطاقًا محدودًا من الأنماط الطيفية التي يمكن أن تمثل مشكلة لخوارزميات التعلم الآلي، كما تضيف التفاعلات السطحية المتنوعة، كتلك التي تحدث مع الكثبان الرملية والنتوءات الصخرية، المزيد من التعقيد. ومع ذلك، يتوقع الباحثون أن تتحسن دقة النمذجة والتنبؤ مع الحصول على المزيد من البيانات من المسوحات الميدانية الأخيرة ودمج الشبكة العصبية وخوارزميات الانتشار الراجع‏..

 

قال الدكتور فرانسيس: "تبدو الكثبان الرملية رائعة في الصور الجوية وصور الأقمار الصناعية، حيث أنها تبدو كأمواج المحيط، ولكنها رملية. كان الأمر المذهل بالنسبة لي، هو عندما أشار لنا نموذج التعلم الآلي إلى المنطقة المحتملة للتنقيب، واتضح أن هذه هي المنطقة التي بدأ علماء الآثار بالفعل في استكشافها، فأثبت ذلك صحة الطريقة.”

ليس لهذا البحث آثار على مستقبل الدراسات الأثرية فحسب، بل أيضًا على فهمنا لأنظمة الصرف الصحي القديمة داخل منطقة الدراسة. ومن المتوقع أن تتحسن قابلية وفاعلية تطبيق العملية من خلال المسوحات الميدانية الأحدث عهدًا والمزيد من الجهود فيما يتعلق بالتأكد من فعاليتها باستخدام بيانات متعددة الأزمنة، كما يمكن تكييف التقنيات التي طُوّرت هنا لخدمة الأبحاث الأثرية بشكل أفضل في مناطق أكبر وبيئات مماثلة، وبالتالي إلقاء الضوء على الماضي وتوجيه الدراسات المستقبلية.

علاوة على ذلك، يشير هذا البحث إلى إمكانية إجراء تحقيقات شاملة وطويلة المدى فيما يتعلق بالمناظر الطبيعية لعصور ما قبل التاريخ لموقع الدراسة والبيئات المماثلة. يمكن أن يؤدي سير العمل الذي يدمج التعلم الآلي وتقنيات التعلم العميق مع الكشف الآلي عن الميزات إلى عمليات الكشف عن قطع ومواقع أثرية مجهولة الهوية والتحقق منها. وهذا من شأنه أن يعزز مجموعات البيانات التدريبية الأثرية ويساعد في تحديد المناطق المهمة والتنبؤ بأماكن المواقع المحتملة وصياغة استراتيجيات بحثية مدروسة أكثر للتحقيقات المستقبلية.

قال الدكتور فرانسيس: "يثبت هذا البحث صحة مفهوم قدرة كل من صور رادار الفتحة التركيبية والتعلم الآلي على توجيه عمليات البحث الأثرية في البيئة الصحراوية، كما أن الأساليب التي طورناها تناسب جميع المناطق القاحلة وآمل أن نتمكن من تطبيقها على دولة الإمارات بأكملها ومن ثم نقلها إلى المناطق الصحراوية الأخرى في المنطقة، وعلى الرغم من أن هذه المناطق  لم تُكتَشف بعد، إلّا أننا نعلم أن لها تاريخًا ثقافيًا.

 

تمثل هذه النتائج قفزة كبيرة نحو دمج التكنولوجيا المتطورة وعلم الآثار، مما يدل على أنه يمكننا اكتشاف قصص ماضينا حتى في أشد البيئات قسوة، فمن يدري ما الأسرار الأخرى التي تخبئها الرمال؟