قد يصبح للأنهار الجوية دورٌ هامٌ في تشكيل مستقبل القارة القطبية الجنوبية بالتزامن مع تغيّر المناخ الذي يغيّر تواترها وشدتها 
أنهارٌ في السماء: كيف تشكّل العواصف الخفية ملامح مستقبل القارة القطبية الجنوبية 

في حين تُعرَف القارة القطبية الجنوبية بأنها أبرد صحراءٍ في العالم، إلّا أنّ لها نصيبٌ كبيرٌ من الرطوبة من مصدرٍ غير متوقع، وهو الأنهار الجوية، حيث تُعتبر "أنهار السماء" هذه تيّارات هوائية طويلة وضيقة تحمل كميات هائلة من الرطوبة من المناطق الأدفء إلى القطبين، ويمكن أن ينتج عنها تساقط ثلوج كثيفة تسهم في تعزيز كتلة الغطاء الجليدي، لكّنها قد تؤدي أيضًا إلى ذوبان مدمر وزعزعة استقرار الأنهار الجليدية والأجراف الجليدية. 

 

تُعتبر الأنهار الجوية جزءًا هامًّا من دورة المياه العالمية، حيث تمتد هذه التيّارات غير المرئية من البخار بطول يزيد عن 2000 كيلومتر وتنقل الرطوبة عبر القارات والمحيطات، فينتج عن التفاعل بين الهواء الدافئ الرطب والجو البارد والجاف للقارة، أحداث مناخية متطرّفة عندما يصل إلى القارة القطبية الجنوبية. 

 

تتسبب الأنهار الجوية على الرغم من ندرة حدوثها، حيث تحدث بمعدل ثلاثة أيام في السنة في أي مكان معين، بنسبة كبيرة من الظروف المناخية القاسية في القارة القطبية الجنوبية، فقد كانت مسؤولة عن 50 إلى 70% من حالات التساقط الغزير للثلوج في شرق القارة القطبية الجنوبية منذ عام 1980، ما أسهم في تعزيز الغطاء الجليدي مؤقتًا. ومع ذلك، لا يُعتبر تأثيرها إيجابيًّا دائمًا، ذلك أنّه يمكن أن يرفع الهواء الدافئ المحمّل بالرطوبة الذي يؤدي إلى تساقط الثلج، درجات الحرارة فوق درجة التجمد، ما يؤدي إلى ذوبان سطح الأجراف الجليدية وإضعاف سلامتها الهيكلية. 

 

اضطلعت الأنهار الجوية في الماضي، بدورٍ أساسيٍّ في بعض أقوى انهيارات الأجراف الجليدية في القطب الجنوبي، حيث تعرّض الجرفان الجليديّان لارسن إيه ولارسن بي اللذان تفكّكا في عامي 1995 و2002، على التوالي، لأنهار جوية أدّت إلى نشأة هواء دافئ ورطوبة، ما أدى إلى ذوبانٍ واسع النطاق، ولم تكن هذه الانهيارات حوادث منعزلة، فقد بات العلماء يعلمون الآن أن الذوبان الناجم عن الأنهار الجوية كان عاملًا حاسمًا في عدم استقرار الجرف الجليدي.   

 

شهد مارس من عام 2022 أحد أبرز الأمثلة التي وقعت مؤخّرًا، عندما أسهم نهرٌ جويٌّ قوي في رفع درجات الحرارة في شرق القارة القطبية الجنوبية بـ 30 إلى 40 درجة مئوية فوق المعدل الطبيعي، في ما سُمّي بأهم موجة حر سُجِّلت على الإطلاق في القارة، حيث وصلت درجات الحرارة في محطة كونكورديا بالقرب من القطب الجنوبي، إلى مستوىً غير مسبوق بلغ 9.4- درجة مئوية، وهو ما كان أعلى بكثير من درجة الحرارة المعتادة التي لم تكن تتجاوز 50- درجة مئوية خلال ذلك الوقت من العام، ولم يؤدّ هذا الحدث إلى ذوبان السطح على نطاق واسع فحسب، وإنّما أسهم أيضًا في الانهيار النهائي لجرف كونجر الجليدي، وهو كتلة بحجم مدينة نيويورك. 

 

يُتوقع أن تصبح الأنهار الجوية أكثر كثافة وتحمل كميات أكبر من الرطوبة بسبب زيادة التبخر من ارتفاع درجة حرارة المحيطات، بالتزامن مع ارتفاع درجة حرارة المناخ، وقد يكون لهذا تأثيرات معقدة على القارة القطبية الجنوبية. من جهة أخرى، يمكن أن تؤدي قوة الأنهار الجوية إلى تساقط كمية أكبر من الثلوج، ما يؤدي إلى زيادة كتلة الغطاء الجليدي مؤقتًا. لكنّها قد تؤدي أيضًا إلى ذوبان أكثر تواترًا وانتشارًا، لا سيّما على طول حواف القارة التي تعمل فيها الأجراف الجليدية كحواجز تعيق تحرّك الأنهار الجليدية.  

 

تثير زيادة الذوبان الناتج عن الأنهار الجوية القلق بسبب احتمالية تسبّبها في انهيار المزيد من الأجراف الجليدية في القطب الجنوبي، حيث يمكن أن تتدفق الأنهار الجليدية التي تقع وراء الجرف الجليدي بحرية أكبر في المحيط بمجرد اختفائه، وهو ما يسهم مباشرةً في ارتفاع مستوى سطح البحر. وعلى الرغم من الضبابية التي تخيّم على التوازن الدقيق بين تساقط الثلوج والذوبان، يتفق العلماء على أن الأنهار في الغلاف الجوي ستلعب دورًا يزداد أهمية في تحديد مستقبل الغطاء الجليدي في القارة القطبية الجنوبية. 

 

تُعتبر دراسة أنهار الغلاف الجوي في القارة القطبية الجنوبية أمرًا صعبًا بسبب الظروف القاسية للقارة وموقعها البعيد، حيث يعتمد الباحثون على بيانات الأقمار الصناعية والنماذج المناخية والبعثات الميدانية العرضية لتتبع الأنهار الجوية وقياس آثارها على الغطاء الجليدي، وتشير النماذج المناخية إلى أن الأنهار الجوية ستستمر في الحدوث وبصورةٍ نشطة طوال القرن الحادي والعشرين، لكن هناك حاجة إلى القيام بتنبؤات أفضل وملاحظات أكثر تفصيلًا للتنبؤ بآثارها على المدى الطويل.  

 

يُعد فهم الأنهار في الغلاف الجوي أكثر من مجرد ممارسة أكاديمية، فهو خطوةٌ بالغة الأهمية لتوقّع ارتفاع مستوى سطح البحر في المستقبل، حيث تمتلك القارة القطبية الجنوبية ما يكفي من الجليد لرفع مستوى سطح البحر العالمي بحوالي 60 مترًا، ويمكن أن تؤدّي التغييرات الصغيرة أيضًا في استقرارها، إلى عواقب وخيمة وبعيدة المدى على المجتمعات الساحلية في كافّة أنحاء العالم، ونأمل من خلال تعزيز معرفتنا بهذه الأنظمة الجوية القوية، في تحسين توقّعات ارتفاع مستوى سطح البحر وتقديم إرشادات أفضل لصنّاع القرار الذين يستعدّون للعالم المتغيّر باستمرار. 

 

نشرنا ورقة المراجعة البحثية حول الأنهار الجوية في القارة القطبية الجنوبية، والتي تعاونّنا من خلالها مع العديد من العلماء من مختلف المؤسسات العالمية، في المجلة العلمية "نيتشر ريفيوز" ويمكنكم قراءتها هنا

 

ترجمة: مريم ماضي