يسلط المقال الضوء على القدرات المتفاوتة لقادة دول آسيا الوسطى في إدارة العلاقات والتفاوض مع الصين كمنهجية متطورة
فن إدارة العلاقات التي تربط دول منطقة آسيا الوسطى مع الصين

تقول الدكتورة لي-شن سيم، تتمتع دول منطقة آسيا الوسطى ما بعد الاتحاد السوفييتي وهي، كازاخستان وقيرغيزستان وطاجكستان وتركمانستان وأوزبكستان، بعلاقات تحقق المنفعة المتبادلة مع الصين وإن كانت غير متكافئة نوعًا ما. وفي المقال الذي تم نشره في "جورنال أوف كونتيمبوراري تشاينا"، وهي مجلة دولية متعددة التخصصات تهتم بالشؤون الصينية المعاصرة، ألقت الدكتورة لي-شن، بالتعاون مع الدكتور فرخود أمينجونوف من كلية الدفاع الوطني في دولة الإمارات، الضوء على قدرات قادة دول آسيا الوسطى المتفاوتة في إدارة العلاقات مع الصين كمنهجية متطورة لم يتم التركيز عليها.  

تحظى الصين ودول منطقة آسيا الوسطى التي نشأت بعد انهيار الاتحاد السوفييتي بعلاقات تحقق المنفعة المتبادلة بينهم، حيث ارتفع معدل التجارة من 1.7 مليار دولار أمريكي في العام 2000 إلى 40 مليار دولار أمريكي في العام 2019 بفضل الدور المحوري الذي تلعبه آسيا الوسطى كركيزة أساسية للطاقة والسلع في مبادرة "الطريق والحزام" الصينية. وبذلك، أصبحت الصين أكبر شريك تجاري وضمن أكبر المستثمرين في هذه الدول، وأصبح قادة دول آسيا الوسطى في نفس الوقت يبدون بعض المخاوف حيال الأثر الصيني على سيادتهم وأمن أنظمتهم.

ساد في المنطقة بعد ذلك تحليلات عديدة مضمونها أن دول آسيا الوسطى هي دول ضعيفة وتابعة، بعد أن كانت تعتبر "ساحة القتال" والمنطقة الجيو استراتيجية لأبرز الحضارات العالمية والتي ساهمت في تطوير التقارب الاستراتيجي بين روسيا والصين.

نؤكد على أن بعض دول آسيا الوسطى تمتلك المصادر والإمكانات التي تتيح لها ممارسة الوكالة مقابل علاقاتها مع الصين بشكل يفوق ما تنص عليه الكتب والمؤلفات. ونتوقع أن تصبح سياسة "التحوط" خيارًا قابلًا للتطبيق في مجال السياسة الخارجية لدول آسيا الوسطى التي تشهد تحديات داخلية تشمل العجز في الحكم ومحدودية الإصلاحات الاقتصادية، إضافة للضغوطات الخارجية.

أصبح مفهوم "التحوط" يترسخ شيئًا فشيئًا في الأوساط الدولية، وانتشر بشكل خاص بين الدول المتوسطة والصغيرة بهدف مضاعفة مقتضيات الأمن والحكم الذاتي في وجه القدرات المادية المحدودة نسبيًا. ويمكن اعتبار سياسة "التحوط" أنها وضعية الحياد، فهي مجموعة من الاستراتيجيات التي توصل إلى حل وسط في الحالات التي تتطلب الموازنة ما بين الأمن والحكم الذاتي، كما يمكن أن يتعدى التحوط معنى الحياد ليشمل السعي الاختياري والمشترك للسياسات المعاكسة والموازية التي من خلالها تسعى مجموعة من الدول إلى إرضاء قوة عظمى، في حين تقوم الدول الأخرى بتحدي القوة نفسها.

وفي ضوء الحديث عن دول منطقة آسيا الوسطى، قمنا بتقسيم هذه الدول إلى فئتين، فئة التحوط الثقيل وفئة التحوط الخفيف. تتمتع الدول ذات سياسة التحوط الثقيل بإرادة سياسية كبيرة وتمتلك إمكانات مادية تتيح لها الاستفادة من الظروف الهيكلية والخارجية للانخراط الاختياري بسلوكيات التحوط بشكل فعال وأكبر من نظيراتها من الدول ذات التحوط الخفيف. وفي هذا الصدد، تعتبر دولة كازاخستان ذات تحوط ثقيل نسبيًا بالنسبة للصين، بينما تعد كل من دولة طاجكستان وقيرغيزستان وتركمنستان اللاتي كانت موالية لروسيا، ذات تحوط خفيف، وأما أوزبكستان فهي في طور أن تصبح من دول التحوط الثقيل، حيث تقوم هذه الدول بتوظيف مجموعة من استراتيجيات التحوط التي تعزز الاستفادة من الاقتصاد والجوانب الدبلوماسية والعسكرية والثقافية.

يمكن القول أن تفاعل مستويات الأنظمة والعوامل الإقليمية هي التي تقود دول آسيا الوسطى إلى الانخراط في سلوكيات سياسة التحوط.

ومن جهة أخرى، يعتمد ارتباط الصين بدول آسيا الوسطى على العديد من الركائز أولها، تعتبر منطقة آسيا الوسطى ممر عبور بري ومنطقة مركزية تحقق طموحات الصين في منطقة أوراسيا من خلال ربط غرب الصين مع جنوب آسيا والشرق الأوسط وأوروبا، الأمر الذي يساهم في توفير بديل فعال للطرق البحرية التي تحمل الجزء الأكبر من تجارة البضائع الصينية إلا أنها تعتبر خارجة عن سيطرتها. أما الركيزة الثانية فهي مصادر الهيدروكربون والمواد المعدنية الموجودة في المنطقة التي تعزز النمو الاقتصادي في الصين وتحقق ازدهارها.

يبدو أن قادة دول منطقة آسيا الوسطى ملتزمون بتوطيد العلاقات مع الصين، حيث يتوقع أن يقوم الربط المادي الذي تموله الصين بتسهيل الوصول إلى أسواق التصدير، كما تعتبر القروض التي تقدمها الصين والشركات الصينية والاستثمارات في غاية الأهمية لنمو الاقتصادات المحلية في واحدة من أفقر المناطق في العالم. وتحقيقًا لهذه النتيجة، قامت كل من كازاخستان وقيرغيزستان بالتفاوض مع الصين لضم رؤى التطوير الاقتصادي المحلي وهما، رؤية نورلي زهول في كازاخستان وتازا كوم في قيرغيزستان، مع رؤية مبادرة الحزام والطريق الصينية. إضافة لذلك، شكلت العلاقات الصينية مع دول آسيا الوسطى قوة متوازنة ضد متطلبات الدولة المهيمنة السابقة، روسيا.

يساهم تحقيق جميع تلك الأهداف بالنسبة لقادة دول آسيا الوسطى في ترسيخ شرعية الدولة وتعزيز قدرتها على الصمود لكن توجد بعض المخاوف التي لم يفصح عنها القادة بشكل علني وهي الآثار الواقعة على الأنظمة الأمنية والحكم الذاتي في حال صعدت الصين كقوة عالمية. 

وفي سياق متصل، أظهرت القدرات المادية بين كل من دول آسيا الوسطى والصين عدم توازن في القوى بشكل كبير وواضح، الأمر الذي لم يمنع تلك الدول من اتّباع سياسة التحوط، حيث أنها تذعن لمطالب الصين وفي نفس الوقت تتحداها.

تعتبر دول آسيا الوسطى منطقة يصعب السيطرة عليها والتحكم بها وضمها تحت النفوذ الصيني، نظرًا للدور البارز والحازم الذي يتمتع به قادة تلك الدول والذي يمكنهم من الاستفادة من الاعتبارات الهيكلية والخارجية والمحلية في مجال إدارة العلاقات مع الصين والتفاوض معها. وعلى الرغم من امتلاك الأنظمة في دول آسيا الوسطى على مصادر وإمكانات مختلفة، فإن التحوط يتعدى حدود التنويع في الشركاء كاستراتيجية اختيارية للحد من المخاطر الاقتصادية والأمنية وزيادة حجم الفوائد السياسية التي تتمثل بتعزيز شرعيتها.

يمكن القول أن قادة دول وسط آسيا ليسوا متحوطين فعالين كبعض القادة في دول آسيا، لكنهم بدأوا الاستعانة بسياسة التحوط كجزء من فن إدارة شؤون الدولة للتفاعل مع الصين.

يذكر أن قدرات دول آسيا الوسطى في التحوط ستتطور في المرحلة المقبلة على الرغم من مواصلة شراكاتها غير المتكافئة مع الصين.